فصل: د- تثبيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في مجال الدعوة وبث الطمأنينة في نفوس المؤمنين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الواضح في علوم القرآن



.3- أغراض القصة في القرآن:

القرآن كلام الله تعالى المنزل ليأخذ بيد الناس إلى ما فيه صلاحهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة، فهو كتاب هداية أولا وآخرا، وللقرآن وسائل متعدّدة لتحقيق هذه الهداية، والقصّة القرآنية إحدى هذه الوسائل، ولكي تحقّق القصّة في القرآن الغاية الأساسية له، فقد سيقت لأغراض متعدّدة، أهمها:

.أ- إثبات الوحي والرسالة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم:

من المعلوم أن محمّد بن عبد الله- صلوات الله وسلامه عليه- كان أميّا لم يعرف قراءة ولم تعهد عنه كتابة، كما سجّل ذلك القرآن إذ يقول: {وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48]. كما أنه لم يجالس أهل علماء الكتاب أو غيرهم ليأخذ عنهم العلم وخبر من قبله. وهذه حقيقة لم ينكرها أحد ممن عاصره أو جاء بعده، إلا ما كان من ذاك الهراء الذي ردّه القرآن بحكم البداهة إذ يقول: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] ولقد ردّد هذا الهراء أناس مغرضون، عوراتهم بادية، لا يؤبه بهم.
وعليه: فإذا ما ثبتت هذه الحقيقة وجاء القرآن بقصص الأنبياء السابقين، وأحوال الناس الغابرين، في دقّة وتفصيل، على نحو يتفق مع ما هو معلوم لدى أهل الكتاب من هذه القصص ويفوقه صحة ووضوحا، إذا كان كل هذا: فقد ثبت بالدليل القاطع أن محمّد بن عبد الله- صلوات الله وسلامه عليه- ما كان ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
هذا وإن القرآن الكريم كثيرا ما ينصّ على هذا الغرض في مقدمات بعض القصص أو في ذيولها، ومن أمثلة ذلك:
قوله تعالى في مقدمة قصّة يوسف عليه السلام: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ} [يوسف: 3].
وقوله تعالى بعد قصة نوح عليه السلام: {تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].

.ب- بيان وحدة الوحي الإلهي:

من الأغراض الهامة للقصّة القرآنية التنبيه على أن الدين السماوي الذي بعث الله به الأنبياء والمرسلين واحد، وأنّ جميع الشرائع المنزلة- بأصالتها- لا تعارض فيها ولا اختلاف. وتحقيقا لهذا الغرض نجد القرآن الكريم يورد قصص عدد من الأنبياء مجتمعة في سورة واحدة، وربما تكرّر مجيء هذه القصص على هذا النحو، كلّ ذلك بغرض تأييد هذه الحقيقة وتثبيتها في الأذهان وتوكيدها في النفوس، ولذا نجد القرآن يصرّح بهذا الغرض أحيانا. ومثال ذلك ما جاء في سورة الأنبياء- بعد ذكر قصص عدد منهم- من قوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].

.ج- العبرة والموعظة:

ومن أغراض القصّة القرآنية أن تشدّ الناس إلى غابر الأزمان، ليلقوا نظرة على من سبقهم من الأمم، ويستعرضوا في مخيلتهم شريطا: يصوّر لهم موقف أولئك الأجيال وما آل إليه حالهم، فيأخذوا العبرة من واقعهم، ويتعظوا من عاقبة أمرهم، ويروا بعقولهم ويتحسّسوا بمشاعرهم نتيجة العناد والاستكبار عن الحقّ الذي يتولّاه الله بعنايته، ويدفع عنه ببالغ بطشه وجبروته، فيضع هؤلاء المخاطبون في حسابهم أنهم إن سلكوا سبيلهم سيصلون حتما إلى تلك النهاية الخاسرة والعاقبة الأليمة، وبالتالي ربما حملهم كلّ ذلك على قبول الحقّ والإذعان إليه. وعلى سبيل المثال:
* اقرأ ما جاء في سورة القمر من تلك القصص السريعة المتتالية التي تكشف عن جبروت الله تعالى وبالغ قدرته وشدّة انتقامه، وما أنزله بكلّ أمة باغية من أنواع الدمار والهلاك، ثم انظر إلى ما جاء عقبها من التنبيه والتحذير بقوله تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 43- 45].
* واقرأ أيضا ما جاء في سورة هود والعنكبوت وغيرها من السور التي ذكر فيها عاقبة المستكبرين والمكذبين، ثم انظر إلى هذا القرار العادل الذي يلفت الانتباه إلى مصير كل من تنكّب الطريق: {فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].

.د- تثبيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في مجال الدعوة وبث الطمأنينة في نفوس المؤمنين:

ولعل هذا الغرض من أهم أغراض القصّة القرآنية، وتحقيقا له فقد ورد كثير من قصص الأنبياء مع أقوامهم مجتمعة تارة، ومنفردة أخرى، ويتكرّر فيها العرض أحيانا. واقرأ في ذلك ما جاء في سورة هود والعنكبوت، ففي كل منهما بيان وجلاء لهذا الغرض من ناحيتين:
1- بيان أن طريقة الأنبياء جميعا في الدعوة إلى الله تعالى واحدة، تتجلّى في إشفاقهم على أقوامهم وصبرهم على أذاهم، إلى جانب تشابه مواقف أولئك الأقوام في إعراضهم وسوء استقبالهم لأنبيائهم.
2- بيان أن الله عزّ وجلّ ينصر أنبياءه ومن تبعهم في النهاية، مهما نزل بهم من أذى، وطاف حولهم من البلاء، ويهلك أولئك المكذبين مهما تفنّنوا في الإيذاء أو ابتكروا من ألوان الصّدّ والعناد.
وواضح أن ذكر مثل هذه القصص من شأنه أن يزيد في ثبات النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على طريق الدعوة إلى الله تعالى، وفي صبره على تحمل أذى القوم، كما أنه من شأنه أن يبعث في نفسه ونفوس من اتّبعه من المؤمنين الطمأنينة والثقة بنصر الله. ولقد صرّح القرآن بهذا الغرض. ومن ذلك قوله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120].

.4- منهج القصّة القرآنية:

قد علم- مما مرّ من الكلام عن أغراض القصّة في القرآن- أنّ الغرض الأساسي لها: هو الهداية إلى الله عزّ وجلّ، ولقد كان لخضوع القصّة القرآنية لهذا الغرض أثر بين في مادتها وطريقة عرضها، مما جعل لها منهجا خاصا بها، يقوم على أروع مظاهر الجمال الفني والإشراق البياني. ويتجلّى هذا المنهج بالمظاهر التالية:

.أ- التكرار:

قد تأتي القصّة القرآنية لغرض من الأغراض التي سبق ذكرها، ولكنها- في الوقت نفسه- تنطوي بمجملها على أغراض أخرى متعدّدة، ويشتمل جانب منها- أو بعض الجوانب- على فوائد متعدّدة، وعظات جمة، وعبر متنوعة، وقد يقتضي غرض الدعوة الديني أن تعاد القصّة أو جانب منها أو أكثر، في موطن آخر، أو مواطن متعددة، لمناسبات خاصة بالعبرة التي تساق القصة- أو بعض جوانبها- من أجلها، فتكرّر القصة أو بعض الجوانب منها تلبية لهذا الغرض، ولهذا التكرار فائدة وجمال.

.1- فائدة التّكرار وتناسقه:

على أنّ الملاحظ- غالبا- أن جسم القصّة كلّه لا يكرّر إلا نادرا، وإنما يتناول التكرار بعض الحلقات فيها، ومعظمه إشارات سريعة لموضع العبرة فيها كما ذكرنا.
كما يلاحظ- أيضا- أن هذا التّكرار متناسق كل التناسق مع السياق الذي وردت فيه، مما يجعل القارئ المتأمّل لكتاب الله تعالى يشعر وكأنّه أمام قصّة أو خبر لم يكن ليسمع به من قبل، ويتنبّه إلى فوائد وعبر لم تكن لتخطر منه على بال.
وخذ مثالا على ذلك: قصّة موسى عليه السلام- مع فرعون وقومه أو مع بني إسرائيل- وهي أكثر قصص القرآن تكرارا، وانظر كيف أنها في كل موطن ذكرت فيه- أو أشير إليها- أفادت موعظة خاصّة، وعبرة فريدة، اقتضاها السياق القرآني، تختلف عما أفيد منها في موطن آخر.

.2- جمال القصة في التكرار:

وقصّة موسى عليه السلام نموذج للقصص القرآني- ومثلها غيرها- فمن تأمّلها بإمعان ودقة علم أن التّكرار في القرآن ليس تكرارا مطلقا، من شأنه أن يبعث الملل في نفس القارئ أو السامع، بل إنه تكرار أكسب القصّة القرآنية جمالا فنيا وروعة أسلوب. وخذ مثالا على ذلك: قصص الأنبياء، فإنّ عرض هذا الشريط من قصصهم مرّات متعدّدة بتعدد أغراضها، يخيّل للمتأمّل أنه نبيّ واحد، وأنها إنسانية واحدة، على تطاول الأزمان وتباعد الديار، كلّ نبيّ يبعث يمرّ وهو يقول كلمته الهادية: {يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، فتكذّبه هذه الإنسانية الضّالّة، ثم يمضي ويجيء تاليه، فيقول نفس الكلمة، ثم يمضي، وهكذا لا يختلف الموقف ولا تختلف النتيجة من نصرة الحق ودحر الباطل.

.ب- العرض بالقدر الذي يحقق الغرض:

تبعا للغرض الذي سيقت من أجله القصة القرآنية، نجد القرآن تارة يذكر القصة بكامل تفصيلاتها، وتارة يكتفي بذكر ملخص عنها أو إشارة إليها، وتارة يتوسط بين هذا وذاك، وربما اكتفى أحيانا بعرض حلقة من حلقاتها، أو مشهد من مشاهدها، وكل ذلك خاضع- كما قلنا- لما في حلقات القصة وجوانبها من أهمية وعظة.
* فمن أمثلة ما ذكر مفصلا: قصة موسى ويوسف عليهما السلام، وكذلك قصة مريم وولادتها عيسى عليهما السلام، فإن هذه القصص قد ذكرت تفصيلا دقيقا بكل جوانبها، وقد كان هذا التفصيل مقصودا، والغرض منه- على الإجمال- إثبات رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، إلى جانب أغراض دينية أخرى ذات أهمية وشأن، كتصحيح ما ادعاه أهل الكتاب من بنوة عيسى ابن مريم لله عز وجل.
* ومن أمثلة ما توسط في تفصيله أو اختصر قصة نوح وداود عليهما السلام، وكذلك قصص هود وصالح وزكريا ويحيى عليهم السلام.
* ومن أمثلة ما اقتصر فيه على مشهد من المشاهد أو أكثر قصة أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين، وكذلك قصة نزول آدم عليه السلام إلى الأرض، إذ لم يتحدث القرآن عنها بأكثر من قوله تعالى: {قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى} [طه: 123].
ولهذا المظهر في منهج القصة القرآنية غرض بيّن؛ إذ من شأنه أن يجمع على القارئ شتات ذهنه، ويصرف انتباهه إلى المقصد الأساسي من القصة، فيستطلع الغرض الديني الذي تستهدفه، ولا يغفل عن العبرة والعظة التي سيقت من أجلهما القصة، وبالتالي تنصاع نفسه لما انطوت عليه من هداية وتوجيه.

.ج- بث العظات والتوجيهات في سياق القصة:

إن القصة القرآنية: لا تدع القارئ يتفاعل معها وينصرف إليها بكل تفكيره، دون أن تفصل بين حلقاتها بفواصل من العظات والعبر، وتبث في جوانبها النصائح والتوجيهات، أو تحيطها بأطر من الإرشادات التي من شأنها أن تنبه القارئ إلى المقصد الأساسي من قصها، وتكون بمثابة مصابيح هداية يقف أمامها وقفة الفاحص المتأمل، الذي يسبر أغوار الحوادث والأمور، ليفيد منها في حياته وسلوكه.
وهذه اللمسات من العظات والعبر تكون:

.1- تارة في ثنايا القصة وخلالها:

وخذ مثلا على ذلك ما ذكر في سورة طه أثناء عرض قصة موسى عليه السلام مع فرعون، حيث يقول الله تعالى: {قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى} [طه: 49- 54].
فالقصة حوار بين موسى وفرعون حول وجود الخالق سبحانه وتعالى، ولكنها تتحول عن ذكر حوادث القصة وسردها إلى التذكير بما يتناسب مع السياق من العظات والتوجيهات، فتذكر بعظمة الله تعالى وتلفت النظر إلى مظاهر ألوهيته، وتنصب الدلائل على وجوده ووحدانيته، وتبعث في النفس الشعور بوجوب شكره على عظيم آلائه ووافر فضله، ولا تغفل أن تذكر بالموت ثم البعث والنشور والوقوف بين يدي هذا الخالق، يوم لا تغني نفس عن نفس شيئا والأمر يومئذ لله.

.2- وتارة تكون في مقدمة القصة أو قبلها:

ومثال ذلك ما ذكر في سورة الحجر من قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49- 50]. ثم سرد القصص التي تدل على الرحمة: كقصة إبراهيم عليه السلام وتبشيره بالغلام بعد كبر سنه، وكذلك القصص التي تدل على العذاب: كقصة لوط عليه السلام مع قومه وما حاق بهم من العذاب.